كان يومه يبدأ مع اول صيحة للديك الذي يعلن دخول وقت صلاة الفجر
يغتسل ويتوضا ثم يذهب مع اباه لأداء صلاة الفجر في مسجد القرية..
ثم تتسارع خطاه متجها نحو المخبز لشراء الخبز .. قبل ان يطول طابور الشراه وقبل نفاذ الكمية..
يتناول وجبة فطوره المعتادة مع كوب من الشاي.. ثم ينتهي منها ليبدأ في تقبيل يدي والدته.. ومن ثَمَ يتجه الى المدرسة..
هكذا عرف عمر بنشاطه وتفوقه الدراسي.. فها هو يحتل المراكز الاولى على الدوام.. ويتميز من بين اصدقائه بحسن اخلاقه ونظامه وحسن السلوك..
يدق الجرس .. وبذلك يكون قد انتهى اليوم الدراسي..
وتتسارع خطوات عمر الى حيث يعمل اباه .. في ذاك الحقل الذي بعد عن منزلهم المتواضع بضعة امتار ..منقذا اباه المريض من الجهد والتعب ..
بين الحين والاخر .. يجلس عمر بين جداول الانهار وتحت الاشجار ليستظل بها وليرتاح قليلا..
بادئا حينئذ دراسة المواد المقررة..قبل ان يحل الظلام وتنطفئ انوار الكون.
بعد اداء صلاة المغرب..يتوجه عمر الى منزله ..مفترشا الارض ليعاود الدراسة تحت مصباح الغاز .. الذي بالكاد ينير له ..
عمر هو اكبر اخوته ..ويرى انه المُتحمل الاول لمسؤليتهم..فقد اشتعل راس اباه شيبا .. وانحنى ظهره .. وامه امراة عجوز كبيرة السن..
لذلك قرر عمر ان يكمل دراسته ويلتحق بالجامعة .. وكان حلمه منذ الصغر ان يصبح طبيبا..
كان عمر هو الاقرب من بين اخوته الى اباه ..فقد كان اكثرهم له معونة وسمعا وطاعة.. فلقي تقديرا كبيرا واحتراما من اباه الذي كان يتفاخر به اينما ذهب او جاء.
اقترب الحلم ..ونجح عمر في الثانوية .. وكان الاول من بين ابناء قريته..
اخذ يجري ويجري ليزف خبر النجاح الى والديه.. فرح الجميع وحمدوا الله ..ولكن سرعان ماتنجلي الافراح..
لن يستطيع اباه ان بتحمل مصاريف كلية الطب.. ولم يشأ ان يخبره بعجزه المادي.. وفي نفس الوقت خاف ان يظلمه.. فامره بالالتحاق بكلية الهندسة.
لم يكُن عمر على علم بهذه المشكلة .. فحاول ان يقنع اباه مرة واثنتين وعشرة .. بان يلتحق بكلية الطب .. حتى وصل بهم الامر ذات يوم الى الجدال.. فثار كلا منهما.. وغضب الاب غضبا شديدا ولم يتمالك نفسه..وقد حدث ماقد حدث.. لأول مرة .. يضرب الاب "عمرا" كفا على وجهه..
حينها نظر عمر نظرة المغلوب على امره الى اباه .. واحس بالاهانة والظلم .. وترقرقت الدموع من مقلتيه ..وسرعان ماخرج من مالمنزل .. متجها الى حيث لا يدري.. حتى ساعة متاخرة من الليل.
فجأة ..سمع عمر اصوات صراخ..تزداد وتزداد .. انها تصدر من جهة منزلهم.. أحسَ باهمية العودة الى المنزل..
عاد عمر .. وليته لم يعد .. لقد انشق صدره الما وحزنا من اثر الصدمة..
لقد توفي والده !!!
اخذ عمر يجلد ذاته ..ظنا منه انه السبب في موت ابيه .. لم تجف دموعه منذ تلك الواقعة ..
وحلً الياس .. ولم يعد للنجاح والحياة طعما.. وغُلقت الابواب في وجهه .. ولكن لم يبقَ سوى بابا واحدا .. يرتجيه كل ضائق في الدنيا ..
انه باب ارحم الراحمين .. توجه عمر الى المسجد حتى اعتكف فيه ولم يعد عمرا الذي عهدناه..
علم شيخ المسجد بقصة عمر .. كان شيخا حكيما.. وكانت تؤلمه رؤية عمر المعتكف الباكي على هذه الحال..
ولحسن الحظن .. فلقد كان الشيخ على صلة صداقة قوية بوالد عمر.. وكان يعلم بامر الضائقة المالية التي منعت اباعمر عن قبول كلية الطب..
وفي يوم اقترب الشيخ من عمر الذي رفض الحديث مع الجميع..
وتلى قوله تعالى "انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون" عدة مرات..
وفي كل مرة كان يزداد بكاء ونحيب عمر .. حتى غلبه النعاس.. فقد تناساه منذ عدة ايام..
استيقظ عمر.. وتجاذب الشيخ معه اطراف الحديث.. مستدرجا اياه ليتفوه ولو بكلمة..
حتى نطق عمر قائلا.. : انا السبب لولا فعلتي لتلك .. لما مات..
فاخذ الشيخ يعلمه ان ذلك بيد الله وحده.. وما كان من الشيخ الا ان اعلمه بسر رفض ابيه للطب.. ومدى احساس والده بالذنب في جعله يتخلى عن طموحه وهدفه..
احس اعمر بالذنب للمرة الثانية في حق والده..
لكن الذنب الاول ليس بيده فيه شيئا .. والثاني اراد ان يصلح خطأه فيه..
لم يكن بوسع الشيخ الا ان ينهي الحديث قائلا "ابحث في اعماقك.. وكُن انت"!!
اخذ عمر التفكير الشديد..بين هدف هو عاشق له وبين واقع لا مفر منه..حتى الهمه الله رشده .. بعد دعوة صادقة في دجى الليل..
وهنا فقط..
وضع معنى جديدا للهدف!!..
بتسائل صغير : لماذا لا يصبح المهندس الطبيب؟؟
نعم الطريق طويل وشاق .. وقد يتناثر كحبيبات الرمل من الجبال!!
ولكن الصبرَ الصبرَ يا عمر..سيوفى الصابرون اجورهم .. ولكل مجتهد نصيب..
وقد كان القرار .. قرار العقل لا العاطفة والاحلام..
التحق عمر بكلية الهندسة.. وكان بداخله ان يكمل الطب بعد الهندسة..
فهو سيتعلم الهندسة ويعمل فيها ليجني ما يمكنه من الالتحاق بكليه الطب..
ولا ننسى .. ان من يرضي الله.. كان حقا على الله ان يرضيه..
رضا تتحق به كل سعادة في الدنيا حتى الاخرة..
والله لا يخلف وعده ..
عمر اجتهد وصبر وارضى ربه ووالديه .. ولم يٌضع وقته فيما لا ينفع..
ومن فضل الله عليه .. وفي السنة الثالثة بالتحديد.. أُسس قسم جديد في الهندسة..
انه قسم الهندسة الطبية !!
وكانت تلك هي المفاجأة الكبرى والحقيقية لهذا الشاب اليافع..
وبالفعل التحق بها.. بل واصبح افضل مما قد تمنى ..
مهندسا وطبيبا بل وبروفيسورا ايضا..
انه يتحكم في الاجهزة الطبية ..انه يتحكم في صناعة الاعضاء البديلة
لم يُضف الطب له شيئا .. بل هوالذي اضاف للطب علوما وافاقا جديدة
انه هدف من نوع اخر .. ثقيل المعيار
الا انه انجاز لصبر واجتهاد دائمين
يحلو طعم ثماره
الثلاثاء يوليو 07, 2009 11:28 pm
